أجيال غادرتنا وأخرى تصارع للبقاء
وقد سبق أن قال الفرزدق رداً على انتقاد الحضرمي لأحد أبياته: “ما يسوءك ويزعجك فلا بد أن نقوله، ويجب عليك أن تفسره”. ممارسة النقد اتخذ موقفاً بجانب الإبداع، بدلاً من أن تصبح قائداً وقائداً وقائداً حتى يبدأ النقد بالسير في طريق لا نهاية له. ركض وراء المدارس الأدبية والشعرية الجديدة وحاول استيعابها وتمهيد مسارات جديدة لها بنظرياته وأساليبه. عندما يفتقر الإبداع إلى النقد الجيد، فإنه يرتبك ويكرر أخطائه التي لا يرتكبها أحد ولا يهتم بها أحد. الناقد الجيد هو دليل على الطريق الصعب. ولذلك فإن المبدع يقدم إبداعه كما عبر عنه، فيأتي دور الناقد الذي يعيد الترتيب، ويكشف، ويستنتج، ويشير بطريقة جديدة. ومن المدهش أننا أمام إبداع يتوافق مع النص ويكشف أبعاده.
* أجيال النقد بين الرحيل والبقاء لقد رحلت مؤخراً أسماء مهمة ملأت الفضاء النقدي بالمعرفة والشهرة والهيبة. منذ أقل من عامين، كان د. صلاح فضل و د. جابر عصفور، وقبل أشهر د. سيزا قاسم، ويتبعنا د. سمية رمضان، واجتاحنا شعور مرتعد بأن النقد الأدبي في مصر ووطننا العربي قد فقد قوته. وهو في خطر، خاصة في ظل ما نشهده في الفضاء النقدي الحقيقي من ممارسات نقدية غير مقبولة. منذ وقت ليس ببعيد، كان النقد الأدبي ممثلاً بقوة بين كبار الأكاديميين والأساتذة. ولم يكونوا موجودين بأعداد كبيرة عبر الأجيال، لكنهم تركوا انطباعا مميزا في كل جيل لا يمكن محوه. ولم يقتصر دورهم على نقد النص، بل تجاوزوا ذلك إلى رعاية المواهب وصقلها وتحليل… النصوص الأدبية وتنفيذ النتائج في شكل نظريات لتوجيه الأجيال اللاحقة.
لكن للأسف مع رحيل تلك الأجيال المتمثلة بجيل الرواد والأجيال اللاحقة تحول النقد إلى ما يشبه المجاملات حتى بدأ الناقد باستثناء من رحم ربي يكتب عن نصوص المقربين لمن كان سعيدًا بهم، وليس لمن يستحقهم. وبدلا من ذلك، أصبح النقد انطباعا نمطيا موجزا. ومن المفيد لأي نص، وفي أي زمان وأي مكان، حتى أن ما قيل في نص يمكن «توحيده»، بعبارة أخرى: هذا ما معياره آفة النقد السريع في الندوات والصالونات الأدبية والمقالات. … أي النموذج الخيالي لما ينبغي أن يبدو عليه النص المكتوب، حتى أصبحت ساحة الإبداع مكتظة بالطاقات الزائفة والخادعة والمقلدين واللصوص ومستوردي الأفكار وضعاف اللغة، الذين يبحثون عن قوالب أبسط وما شابه. فلا عجب أن بعض هؤلاء الأشخاص قد حققوا الشهرة منذ فترة طويلة؛ وما زال.
للإجابة على سؤال محير حول مصير النقد بين يدي الجيل الحالي، يمكننا أن نلقي نظرة سريعة على بعض أجيال النقد السابقة:
*جيل الرواد ومنهم طه حسين ومحمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي. وكان نقدهم يقوم على تفضيل الأدب ثم على الأحكام العامة مثل كبار النقاد القدماء بدءاً بالناقد المنهجي الأول محمد بن سلام الجمحي مروراً بالجاحظ قدامة بن في كتابه “طبقات فحول الشعراء”. ” جعفر وحازم القرطاجاني، باستثناء الحسن بن بشر الآمدي، في كتابه “الميزان بين الطائيين” فإنه كان ذا عقل تحليلي حيث بنى كتابه على تحليل البعض”. قضايا في شعر الطائيين، وأخيراً عبد القاهر الجرجاني في كتابه “دلائل الإعجاز”. ولم يغب النقد عن اهتمام الفئة الأخرى المعنية بالعلم بشكل عام أو بالعلوم الإنسانية بشكل عام، ولذا يمكن أن نلاحظ بعض تجلياته في شخصيات الجيل القادم، حيث أن هؤلاء هم أهم العاملين في الفلسفة، وهؤلاء هم: زكي نجيب محمود، وعبد الرحمن بدوي، وفؤاد زكريا (وقبلهم منصور فهمي)، ولكل منهم مساهمته في النقد الأدبي، أو النقد الموسيقي، أو نقد الشعر.
* طلاب جيل الرواد ويمكننا أن ننظر إلى نقاد الجيل القادم الكبار، من محمد مندور، وسهير القلماوي، وشوقي ضيف، وأحمد كمال زكي، إلى شكري عياد، ولويس عوض، وشوقي عبد الحميد، ورجاء النقاش، وعبد القادر القط، وسيزا. وقد حافظ قاسم وآخرون على دور الناقد ورسالة النقد بدرجات متفاوتة. ولم يقتصروا على قفص التخصص الضيق. وفي الواقع، انفتح بعضهم على اتجاهات ما بعد الحداثة.
*محمد مندور قائد فرقة موسيقية كان الناقد محمد مندور، الملقب بـ “شيخ النقاد”، رمزا لجيل النقاد، إذ عزز جيل مندور أفكار جيل النقاد الرواد الذين سبقوه من خلال الجمع بين دراسة الأدب، والقانون، والسياسة، وعلم الاجتماع، وكان لفكرة السنوات التسع التي قضاها في فرنسا تأثير كبير عليه. وقال إن هذه السنوات شكلت شخصيته وأن مسألة التجديد كانت دائما من القضايا المهمة وهذا ما أزعجه، فأدرك أن الصحافة هي المجال الواسع الذي يتيح لكتاباته فرصة أن تنعكس في المجالات والساحات. من السياسة.
*عبدالقادر القط منتصرا للأفضل
ولا يزال الثمانينيون يتذكرون الناقد د. عبد القادر القط (رحمه الله) وخاصة تجربته مع مجلة إبداع. ولم يدخر جهدا في أن يتفوق على قصيدة فتى عظيم موهوب من مركز بعيد في صعيد مصر أو قصة شاب رائع من قرية مجهولة في الدلتا.
* الجيل الحالي: هل تعتقدين أن الجيل الحالي من النقاد واصل مسيرة معلميه من الجيل الرائد وما بعده، وهل أكملوا ذلك المسار؟ الناقد الكبير د. وسبق أن علق محمد عبد المطلب على هذه المسألة قائلا إن الجيل الجديد من النقاد لم يكمل المسار الذي سبقه وعاد إلى مرحلة (نقل الثقافة النقدية) التي وصفها عبد المطلب بـ (الفوضى) ، والذي كان يقصد به مجموعة عشوائية من المسارات الحرجة، ألخصها في خمسة مسارات: الأول: (النقد الآلي)، وفيه يتحول الناقد إلى (جهاز تسجيل) يكرر سلسلة من المصطلحات النقدية المترجمة، ثم يفرضها على النص، فيحوله بالتالي إلى كائن مشوه. الثاني: (النقد الحرفي)، أي أن النقد عند بعض الحرفة، يشبه حرفة (السباكة). تحت تصرف الناقد مجموعة من الأدوات التي توفرها له النصوص (علم السرد)، دون تمييز بين نص وآخر. ثالثاً: (النقد المائي)، وهو نقد كالماء بلا لون ولا طعم ولا رائحة، يمكن أن ينتقل بسهولة من نص إلى آخر ومن مؤلف إلى آخر دون صعوبة. الرابع: (النقد الجوي)، وهو النقد الذي ينتهي أثره بانتهاء القراءة أو الاستماع، وكم منها. خامساً: (النقد البهلواني) وهو النقد الذي له رواد وأتباع، فالناقد عندما يقترب من النص ويستخرج منه العجائب فهو كالإناء الذي يخدع العين فيصب الماء من كوب فارغ فتخرج البيضة. أذن المشاهد.
وفي الختام، رغم كل هذا، لا ننكر أن هناك حاليا نقادا أكاديميين رفيعي المستوى وغيرهم من الموثوقين، ذوي ثقافة واسعة، يفهمون التراث العربي والأدب الغربي، ولديهم أيضا أفكار من شأنها تصحيح الأخطاء الموجودة في الأدب الغربي. السنوات النهائية في جامعات اللغة العربية الذين يتفوقون ويتحمسون للنقد أيضًا. قد يكون مستقبلهم الحاسم مشرقًا، لكن الجميع يفتقر إلى الحافز ويشعرون بالحاجة إلى زيادة الوعي بأهميتهم. لكن عددهم قليل، وهم يكتبون ويختفون تحت وطأة التيار الآخذ في الاتساع، لنعترف في النهاية بأن النقد في خطر كبير والمسؤولية تقع على عاتق الجميع – مبدعين ونقاداً ومثقفين. والداعمين والمهتمين والمؤسسات العامة والخاصة؛ فإما أن الصحوة قادمة قريباً، وإما أن النقد والإبداع قد ضاعا.