من حصن منيع إلى فخٍّ قاتل
ولطالما كانت الضاحية الجنوبية لبيروت مركزاً استراتيجياً للحزب من الناحية الاجتماعية والعسكرية والسياسية. بالإضافة إلى أنها كانت من أهم حصونهم، التي يعتمدون عليها في ضمان نفوذهم وتنفيذ استراتيجياتهم وتنفيذ مخططاتهم، وكانت تمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة الموجودة (العصا الغليظة)؛ وهو بذلك يرهب خصومه ويهيمن على المشهد السياسي ويفرض إرادته في الداخل والخارج.
لكن إضراب 27 سبتمبر 2024، الذي أدى إلى اغتيال أمين الحزب والضواحي، كشف عن هشاشة هذا الحصن. التي فرضت نظاماً أمنياً صارماً مستقلاً على مدى عقود، وسرعان ما أصبح «فخاً» للطرف الذي لا يقهر، لتبدأ في اليوم التالي رحلة التغييرات الجذرية في عملية «الردع المتبادل» التي استمرت 18 عاماً.
كيف أصبحت الضاحية فخاً؟
استراتيجية تغيير الهجوم: في السنوات الأخيرة، طورت إسرائيل تكتيكات مختلفة لمواجهة حزب الله “المحتمل”. وعندما سنحت الفرصة، بدا واضحاً أن هناك تحولاً جذرياً في المواجهة العسكرية، بدلاً من شن إسرائيل هجمات مباشرة وواسعة النطاق على حزب الله، كما حدث في يوليو/تموز 2006. والتي بلغت ذروتها في سبتمبر 2024؛ قوضت الهجمات المحددة في البداية قدرته على التحرك أو الدفاع عن نفسه، فاستهدفت أبرز قادته من خلال عمليات اغتيال متتالية لشخصيات أمنية رفيعة المستوى ومؤثرة، ثم استهدفت لاحقا بنيته التحتية والأماكن التي تم تخزين الذخيرة والأسلحة الحساسة فيها حتى تمكن من قطعها. من رأسه في “الضربة النهائية”.
القرصنة والفخ
ومن الغموض أن المحللين والخبراء ما زالوا حتى اليوم يحاولون فهم ما حدث وكيف حدثت هذه الهجمات. من يتابع استراتيجية الهجمات الإسرائيلية الجديدة على الضاحية الجنوبية لبيروت خلال حرب غزة التي بلغت ذروتها الشهر الماضي، لا بد أنه قرأ في جولة مختصرة ومبسطة لأهدافها، أنها تعمدت إعطاء أكثر من رسالة. والأهم من ذلك أن حزب الله لم يعد يتمتع بنفس المستوى من السيادة على أراضيه، وقد تمكنت المخابرات الإسرائيلية من اختراق حزب الله وإضعافه. والتي قدمت نفسها كقوة موحدة ومنضبطة تتمتع بمستوى عالٍ من قدرات مكافحة التجسس داخل صفوفها.
لكن بعد اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله ومعه قيادات رفيعة المستوى من الصفوف الأمامية، لن نجد لسنوات طويلة من يستطيع الإجابة على السؤال الأبسط والأهم: كيف فعلت قيادات الحزب ذلك؟ ؟ فهل تثق بأن إسرائيل لن تتمكن من الوصول إليهم بما بنوه بعمق عشرات الأمتار عند إعادة إعمار الضاحية بعد حرب 2006؟
وكيف يمكنهم البقاء في الضواحي بعد الاغتيالات المتلاحقة في الأشهر الأخيرة وتحولها إلى ساحة مفتوحة للطائرات والمسيرات الإسرائيلية؟
التحول الشعبي من التأييد إلى الاستياء
وتدرك إسرائيل أن الهجمات على أي من مناطق نفوذ حزب الله لن تؤدي إلى تدمير معاقله ومستودعاته وبنيته التحتية الحيوية فحسب، بل ستؤدي أيضاً إلى تعريض المدنيين أو من حولهم للخطر بقدرتها على حمايتهم.
وهذا التناقض بين هدف الحزب المعلن بالدفاع عن لبنان أو عقيدته أو بيئته، وبين الأضرار الجسيمة والفادحة التي لحقت بالممتلكات والحياة التي سببها، يضع الحزب في موقف حرج أمام قاعدته الشعبية التي رفضها فيما بعد. واستخدمهم دروعاً بشرية لحماية نفسه ومراكزه وذخائره.
وسيبقى الحزب في مأزق أخلاقي وعسكري لسنوات قادمة، لأن سقوط الضاحية لم يؤد إلى سقوط القلعة عسكرياً فحسب، بل ألحق أضراراً جسيمة بسمعته كـ”حركة مقاومة” كان هدفها للمطالبة بحماية بيئته أو مجتمعه الذي قدم له كل أنواع الدعم.
إضافة إلى ذلك، ساهم الصراع القائم في لبنان نفسه والضغوط الاقتصادية والسياسية في جعل الوضع بين الحزب وبيئته أكثر هشاشة. لقد اعتمد الحزب، أو ما بقي منه، بشكل كبير على دعم حلفائه، واضطر إلى ترك بيئته مع كل أنواع التحديات الداخلية (الطرد والمشقة) التي لا تقل خطورة عن التحديات الخارجية.
إن الضاحية التي كانت تصور محيطها ذات يوم كرمز للقوة والمقاومة، أصبحت الآن أرضًا محروقة ولا تزال عرضة لهجمات متكررة. ومع سقوط الضواحي أو نهايتها تبدأ رحلة التغيرات الجيوسياسية والاستراتيجية على كافة المستويات والمقاييس.
معلومات عن الضاحية
مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، تزايدت أعداد النازحين الشيعة إلى الضاحية الجنوبية، إذ اضطر أكثر من 150 ألفاً من سكان الأحياء الشرقية للعاصمة بيروت إلى مغادرة مناطقهم بسبب مضايقات الميليشيات المسيحية.
وبالقرب من الضاحية كان يقع مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، وتبلغ مساحته حوالي 750 مترا مربعا، ويبلغ عدد سكانه حوالي 25 ألف نسمة.
ويتجاوز عدد المؤسسات التجارية والاقتصادية في الضاحية الجنوبية 37 ألف مؤسسة، ويصل عدد مستشفياتها إلى ثمانية وعدد فروع البنوك فيها يتجاوز المئة، إضافة إلى شبكة المدارس والمراكز الثقافية والدينية.