منطق الحرب يحكم العالم
مع بداية تشكيل النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، كان لمنطقة الشرق الأوسط النصيب الأكبر في المناقشات الدولية. والحقيقة أن مصطلح “عملية السلام” ظل الأكثر استخداماً في الأروقة العالمية دون أن يتمكن من حل صراعات العالم في المنطقة، وفي مقدمتها فلسطين.
يمر أقل من عقد من الزمن قبل أن تشهد المنطقة العربية أحداثاً وحروباً كبرى. الحرب الإقليمية الأولى كانت عدوان إسرائيل الثلاثي على مصر عام 1954، إذا تجاهلنا الحرب الطويلة بعد نكبة عام 1948، لكن الواقع كان أن إسرائيل صدرت حروباً خارجية عام 1954 أثرت على العلاقة بين إسرائيل وما يسمى بدول الحلقة.
ومنذ ذلك الحين، انخرطت المنطقة في حروب طويلة، تركزت حول الصراع العربي الإسرائيلي. وفي عام 1964 حملت منظمة الحرير الفلسطينية راية الحرب ضد إسرائيل حتى غادرت بيروت عام 1982 بعد أن منيت بهزيمة ثقيلة عندما تطور الصراع العربي الفلسطيني إلى صراع سياسي انتهى باتفاقيات أوسلو في سبتمبر 1993. نقطة تحول في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث قمعت إسرائيل الجبهة الفلسطينية من أجل فتح جبهة لبنان بعد أن خرجت مصر وسوريا من معادلة الحرب بعد حرب 1973 وأصبحت واحدة بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة صيف 2005. إلى نقطة الاشتعال الدائمة ضد… إسرائيل، خلاصة القول هي أنه بمجرد أن تغلق إسرائيل جبهة، فإنها تفتح جبهة ثانية، وبالتأكيد كان تأثير القضية الفلسطينية هو الثابت الوحيد في الصراع الدولي والإقليمي في العالم. منطقة.
ومع اندلاع ما يسمى بموجة الربيع العربي، ساد اعتقاد بأن القضية الفلسطينية ماتت ودخلت إلى حالة سريرية، بينما انهارت الدول وتغيرت الأنظمة وأكلت الحروب الأهلية الأخضر والجفاف في العالم العربي، وحتى الدول المحيطة، وخاصة سوريا، دخلت في حرب أهلية… فالقضية الفلسطينية مجرد صراع جامد، وهو أمر مفهوم عند مقارنته بمستوى الفوضى التي عمت مراكز العواصم العربية الكبرى، إلا أن هذا الاعتقاد لم تكن سوى مؤقتة، إذ سرعان ما عادت القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام الدولي بعد عملية 7 أكتوبر وكشفت الحقيقة المرة التي طالما حاول البعض الفرار منها، وهي أن فلسطين في حالة لا حرب ولا سلام، أنتم ليس على الطريق الصحيح بعيدا.
لقد تشابكت القوى الإقليمية والدولية في صراعاتها في الشرق الأوسط، واقتربت تركيا من حدود إسرائيل، وأصبحت إيران في قلب المعادلة الإسرائيلية، وتقع اليمن على حافة حدود الأمن القومي لإسرائيل، ودولة واحدة مثلها. فإسبانيا قادرة على تغيير الرأي العام الأوروبي بمواقفها المناهضة لإسرائيل، وروسيا ليست قوة عظمى عضواً في نادي (الخمسة الكبار) بل هي لاعبة، حتى لو كان سلاحها منتشراً في كل الدول. ومثل هذا المزيج لا ينشأ إلا من إلهام الصراع في الشرق الأوسط.
ولم يتمكن أحد من الفرار (فلسطين)، رغم كل الاتفاقيات ومعاهدات السلام المبرمة بين إسرائيل وبعض الدول العربية. وكان الأثر والتأثير أكبر من أي اتفاق أو معاهدة. هذه الحروب والمناوشات والانقسامات لن تنتهي طالما أن هناك معتقدين عميقين للقمع، دون أن يحصل أحد الطرفين على المساعدة مهما أراد أو يستطيع أن يقول (الحقيقة)، فهذه حقيقة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
لقد باءت كل محاولات الإلغاء والإقصاء والتصفية السياسية والعسكرية بالفشل منذ عام 1948، والحقيقة أن الوضع أساساً لم يتغير. ربما تميل كفة الميزان نحو السلطة، لكن كفة الميزان لا تزال متأرجحة، وستبقى كذلك حتى تتغلغل القناعة في منطق أهل الشرق الأوسط بأن هذا المكان لا يصلح لطرف واحد.
من الممكن فهم الطابع الجيوسياسي والأهمية الاقتصادية والتنوع العرقي والديني والانتكاسات التاريخية التي تعاني منها المنطقة التي تعتبر “رأس” الصراعات في الشرق الأوسط وما حوله، لكن ما لا يمكن أن يقصد بذلك هو العناد السياسي وعدم الاقتناع بقواعد التاريخ، مما يتطلب الميل إلى المشاركة والعيش معًا، ولعل درس أوروبا هو الأقرب إلى الدروس التي تعلمتها من الحروب الطويلة في أكبر الحروب الاقتصادية والصناعية والسياسية تحولت كتلة تفوق كل الحروب والاختلافات في الجغرافيا والتاريخ، لكن لا يبدو على الإطلاق أن المنطقة في طريقها إلى الهدوء، بل على العكس من ذلك، في ظل مفاتن الحرب والفوضى التي تتزايد كل يوم، وربما وما ينتظرنا هو أكثر كارثية على شعوب المنطقة، وبالتالي على العالم.
يرى الباحثون وخبراء السياسة الدولية أن الحرب العالمية الثالثة على وشك الانتهاء، ولا أعرف ما هو تعريف ما يحدث الآن في الشرق الأوسط. إذا لم تكن حرباً عالمية فماذا تكون؟!